الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وتعقب بأنه ليس في تقييد كون بغيهم على أنفسهم بحال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به.وقيل: على أنه ظرف زمان كمقدم الحاج أي زمان متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار أيضًا وفيه ما في سابقه، وقيل: على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا.واعترض بأن هذا يستدعي أن يكون البغي بمعنى الطلب لأنه الذي يتعدى بنفسه والمصدر لا يدل عليه، وجعل المصدر أيضًا بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكى عنهم من البغي المفسر على المختار بالفساد المفرط اللائق بحالهم وحينئذٍ تنتفي المناسبة ويفوت الانتظام، وجعل الأول أيضًا بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه.وقيل: على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار.وتعقب بأن المعلل بما ذكر نفس البغي لا كونه على أنفسهم، وقيل: العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة، وقيل: على أنه مفعول صريح للمصدر وعليكم متعلق به لا خبر لما مر، والمراد بالأنفس الجنس، والخبر محذوف لطول الكلام، والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا مذموم أو منهي عنه أو ضلال أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك.وفيه الابتناء على أن البغي بمعنى الطلب وقد علمت ما فيه.نعم لو جعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا مذموم كما اختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي يقتضيه جزالة النظم هو الأول.وقرأ الجمهور {متاع} بالرفع.قال صاحب المرشد: وفيه وجهان، أحدهما: كونه الخبر والظرف صلة المصدر.والثاني: كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، وزيد وجه آخر وهو كونه خبرًا بعد خبر لبغيكم، والمختار بل المتعين على الوجه الأول كون المراد بأنفسكم أبناء جنسكم أو أمثالكم على سبيل الاستعارة، والتعبير عنهم بذلك للتشفيق والحث على ترك إيثار التمتع المذكور على ما ينبغي من الحقوق، ولا مانع على الوجهين الأخيرين من الحمل على الحقيقة كما بين ذلك مولانا شيخ الإسلام.وقرئ بنصب المتاع و{الحياة} وخرج نصب الأول على ما مر ونصب الثاني على أنه بدل اشتمال من الأول.وقيل: على أنه مفعول به له إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل، وذكر أبو البقاء أنه قرئ بجرهما على أن الثاني مضاف إليه والأول نعت للأنفس أي ذات متاع، وجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل أي متمتعات، وضعف كونه بدلًا إذ قد أمكن كونه صفة هذا وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى.وقد أخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والخطيب والديلمي وغيرهم عن أنس قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ثم تلا عليه الصلاة والسلام {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم}، {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}، {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}».وأخرج البيهقي الشعب عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم» وأخرج أيضًا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبغي على الناس إلا ولد بغى أو فيه عرق منه».وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما» وكأن المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه:
وعقد ذلك الشهاب فقال: {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا، وإنما غير السبك إلى ما في النظم الكريم للدلالة على الثبات والقصر.{فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا على الاستمرار من البغي فهو وعيد وتهديد بالحزاء والعذاب وقد تقدم الكلام في نظيره. اهـ.
وقال السموأل اليهودي: وذلك أن (على) تدل على الإلزام والإيجاب، واللام تدل على الاستحقاق.وفي الحديث: «القرآنُ حجة لك أو عليك».فالمراد بالأنفس أنفس الباغين باعتبار التوْزيع بين أفراد معاد ضمير الجماعة المخاطبين في قوله: {بغيكُم} وبين أفراد الأنفس، كما في قولهم: ركب القوم دوابَّهم أي، ركب كل واحد دابته.فالمعنى إنما بغي كل أحد على نفسه، لأن الشرك لا يُضر إلا بنفس المشرك باختلال تفكيره وعمله ثم بوقوعه في العذاب.و{متاع} مرفوع في قراءة الجمهور على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي هو متاعُ الحياة الدنيا.وقَرأه حفص عن عاصم بالنصب على الحال من {بغيكم}.ويجوز أن يكون انتصابه على الظرفية للبغي، لأن البغي مصدر مشتق فهو كالفعل فناب المصدر عن الظرف بإضافته إلى ما فيه معنى المدة.وتوقيت البغي بهذه المدة باعتبار أنه ذكر في معرض الغضب عليهم، فالمعنى أنه أمهلكم إمهالًا طويلًا فهلاّ تتذكرون؟ فلا تحسبون الإمهال رضى بفعلكم ولا عجزًا وسيُؤاخدكم به في الآخرة.وفي كلتا القراءتين وجوهٌ غير ما ذكرنا.والمتاع: ما ينتفع به انتفاعًا غير دائم.وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} في سورة [الأعراف: 24].والمعنى على كلتا القراءتين واحد، أي أمهلناكم على إشراككم مدة الحياة لا غير ثم نؤاخذكم على بغيكم عند مرجعكم إلينا.وجملة: {ثم إلينا مرجعكم} عطفت بـ {ثم} لإفادة التراخي الرتبي لأن مضمون هذه الجملة أصرح تهديدًا من مضمون جملة {إنما بغيكم على أنفسكم}.وتقديم المجرور في قوله: {إلينا مرجعكم} لإفادة الاختصاص، أي ترجعون إلينا لا إلى غيرنا تنزيلًا للمخاطبين منزلة من يظن أنه يرجع إلى غير الله لأن حالهم في التكذيب بآياته والإعراض عن عبادته إلى عبادة الأصنام كحال من يظن أنه يحشر إلى الأصنام وإن كان المشركون ينكرون البعث من أصله.وتفريع {فننبئكم} على جملة: {إلينا مرجعكم} تفريع وعيد على تهديد.واستعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة، والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع.وفي ذكر {كنتم} والفعل المضارع دلالة على تكرر عملهم وتمكنه منهم.والوعيد الذي جاءت به هذه الآية وإن كان في شأن أعظم البغي فكان لكل آت من البغي بنصيب حظًا من هذا الوعيد. اهـ.
|